فرص أستثمارية في الازمة الاقتصادية

من طرف **جار القمر88** السبت ديسمبر 26, 2009 2:38 pm

تتعاقب الأزمات الاقتصادية على النظام الرأسمالي الليبرالي وعبر أطواره التاريخية المختلفة منذ أواخر القرن التاسع عشر الميلادي؛ فبداية من الأزمة التي وقعت في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، وسميت بـ "بأزمة الكساد الطويل"، ومروراً بـ"أزمة الكساد العظيم " التي مُنيت بها الرأسمالية في عام 1929م، وأزمات الثمانينيات والتسعينيات، والتي ضربت دول شرق آسيا "النمور الآسيوية" ودولاً أخرى في أمريكا اللاتينية، وليس نهايةً بالأزمة المالية العالمية والتي ضربت الولايات المتحدة الأمريكية في صميم اقتصادها، واتسع تأثيرها ليشمل كثيراً من الدول الصناعية وغيرها من ذوات الاقتصاديات الرأسمالية، مما دفع بعض المحللين الاقتصاديين إلى أن يصف تاريخ الرأسمالية بتاريخ الأزمات، وذلك لكثرة الأزمات التي مرت عليها.
وقد كتب كثير من المتخصصين والمفكرين الغربيين والشرقيين عشرات بل مئات الكتابات التي تحلل هذه الأزمة وتتحدث عن أسبابها وتداعياتها وأبعادها ودلالاتها الفكرية والاقتصادية، وقد كان أحد أهم هذه الدلالات التي أشار إليها الكثيرون هو فشل النظام الرأسمالي الليبرالي في تلبية احتياجات البشرية، وعدم قدرته على قيادة الاقتصاد العالمي بنجاح وآمان في آنٍ واحد، ووحشيته وغلبة الجشع والطمع والأنانية والغش والتدليس على كثير من تطبيقاته وتعاملاته، وقد صرح بذلك ونادى به عددٌ غير قليل من مفكري واقتصاديي الغرب.
وفي ظل هذه الأزمة يبقى أن هناك فرصاً إيجابيةً للآخرين تحتاج للاستثمار، فالمتوقع أن هذه الأزمة الاقتصادية القاسية ستدفع الغرب بقيادة أمريكا إلى إجراء حركات تصحيحية لنظامها الرأسمالي من ناحية فلسفته وأدواته التطبيقية، يتم خلالها إجراء حزمة من الإصلاحات الجذرية للنظام الرأسمالي تضمن قدراً معقولاً من العدالة الاجتماعية، والآمن من الأزمات والهزات الاقتصادية، وفي هذا السياق يأتي ما صرح به مؤخراً الرئيس الأمريكي جورج بوش من أن على الرئيس الأمريكي الجديد أن يجعل على رأس أولوياته إصلاح القوانين المالية، وأن يسعى إلى تحويل الأفكار والمقترحات المقدمة لإصلاح الاقتصاد الأمريكي إلى قوانين، وكذلك تصريح الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي، والذي اعتبر أن عقد قمة دولية في نهاية العام الميلادي الحالي لإعادة تأسيس رأسمالية أكثر احتراماً للإنسان أمر مطروح.
والمتابع يلحظ أن الأزمات الاقتصادية الماضية كانت سبباً في إجراء عدة تغييرات جوهرية على الفكر الرأسمالي، كان آخرها ما حدث في الثمانينيات الميلادية على يد الرئيسة البريطانية تاتشر والرئيس الأمريكي ريجان، وهذا يشير إلى ما يذكره بعض الباحثين في تاريخ الفكر الغربي من أن التغييرات في الفكر الغربي تكون في الغالب نتيجة نكسات أو أزمات اقتصادية تدفع إلى مراجعات وتصحيحات فكرية، مما يؤكد على سيطرة المادية على الفكر الغربي وسلطة أرباب الأموال عليه.
والواقع الحالي يشهد أننا نعجز كثيراً عن المبادرة وصناعة الفرص وتهيئة المناخات المناسبة التي تخدم مصالحنا وتعطينا فرصة لعرض قيمنا ومبادئنا للآخرين، كما أننا نعجز ثانية في التعاطي الإيجابي مع الفرص التي تُتاح لنا، وهذه سلبية مقيتة ينهى عنها الدين الإسلامي.
وهذه الأزمة الاقتصادية -من وجهة نظري- تُعدّ فرصة تاريخية لنا لنقدم للعالم الاقتصاد الإسلامي كمنظومة عصرية متكاملة تلبي احتياجات البشرية في اقتصادياتها، وتجمع بين الشفافية والعدالة الاجتماعية والآمان، علنا أن نصل في المستقبل إلى أن يكون الاقتصاد الإسلامي نظاماً عالمياً ضمن الأنظمة العالمية التي تحكم العالم اقتصادياً، لاسيما وأن العالم يتجه الآن نحو عالم متعدد الأقطاب اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً، وذلك بعد انتهاء عصر القوة الواحدة المسيطرة على العالم؛ فالهيمنة الأمريكية على العالم تشهد مؤخراً تراجعاً حاداً على المستوى الاقتصادي والسياسي والعسكري، وفي المقابل فهناك بعض القوى الأخرى كالصين وروسيا والهند تصعد لتشكل قوى عالمية منافسة.
فإن عجزنا على أن نجعل من الاقتصاد الإسلامي نظاماً ضمن الأنظمة الاقتصادية العالمية تحت أي مسمى كان ذلك؛ فعلينا على الأقل أن نسعى إلى أن يكون الاقتصاد الإسلامي مؤثراً فاعلاً بشكل مباشر أو غير مباشر في الحركة التصحيحية للنظام الرأسمالي، فيساهم في إحداث شيء من التغيير الممكن في فلسفة وأدوات الرأسمالية لتكون أقرب إلى فلسفة الاقتصاد في الشريعة الإسلامية، فهذا يُعدّ خطوة إيجابية نحو نشر اقتصادنا الاسلامي ولو بشكل مرحلي و جزئي، ولا يعنينا كثيراً بعد ذلك شأن المسميات التي ستسمى بها.
وأضعف الايمان إن لم يتيسر هذا ولا ذاك أن يكون مشروعنا الاقتصادي برؤيته الشاملة ومحتواه الفكري وأدواته التطبيقية في صورة جاهزة وقابلة للتطبيق، ونقدمه للبشرية كمشروع متكامل يمتلك عناصر ومقومات التطبيق والنجاح، فالشعارات الجميلة والخطابات العاطفية التي نرفعها بين فينة وأخرى لا تكفي وحدها لإقناع الآخرين بما لدينا.
ومما يشجع على ذلك أن التعاملات الاقتصادية الإسلامية حققت مؤخراً على المستويات الشعبية نجاحات لافتة، وشهدت تنامياً متسارعاً على المستوى العربي والإسلامي وعلى المستوى العالمي؛ فقد بلغ عدد البنوك والمصارف الإسلامية حول العالم حسب إحصائية صادرة عام 2006م نحو (300) بنك، يبلغ إجمالي ودائعها (30 مليار) دولار أمريكي، وتحظى هذه النجاحات بمتابعة من رجالات الفكر والاقتصاد الدولي ومؤسسات المال العالمية؛ الأمر الذي دفع عدداً من دول العالم الصناعي إلى تطبيق بعض المعاملات الإسلامية في بعض مؤسساتها المالية العريقة، وفتح فروع خاصة بالتعاملات الاسلامية، فعلى مستوى نشاط شركات التأمين مثلاً، فقد أعلنت المجموعة الأمريكية الدولية (آيه آي جي) والتي تُعدّ من كبريات شركات التأمين في العالم، ويبلغ رأس مالها (853.4) مليار دولار أمريكي عن تأسيس شركة تأمين إسلامية تحت اسم "عناية" تتخذ من المنامة مقراً لها، وقبل ذلك أعلنت شركتا التأمين الألمانيتان (هانوفر ري)، و(برودينشيال) - وهما من أبرز شركات التأمين الأوروبية - عن تخصيص خدمات تأمينية وفقاً للشريعة الاسلامية للعملاء المسلمين خاصة، وغير ذلك كثير.
ومن التقارير اللافتة تقرير صحفي بعنوان "نجاح البنوك الاسلامية في مواجهة الأزمة المالية العالمية "، نشرته صحيفة (آر بي ديلي) الروسية، وتحدثت فيه عن تزايد أعداد غير المسلمين الذين يرون أن البنوك الاسلامية وعاء آمن لأموالهم يحميها من خطر أزمة السيولة التي تضرب بنوك العالم الآن، ثم استعرض التقرير شيئاً من أسباب نجاح تجربة البنوك الاسلامية في تحجيم الخسائر في ظل هذه الأزمة، وذكرت على رأس ذلك احتكام البنوك الإسلامية إلى الشريعة الإسلامية التي تحرم الربا، بالإضافة إلى اعتمادها على الودائع المصرفية بدلاً من القروض المصرفية .
هذه المستويات الثلاثة من الأمل – والتي هي العمل على يكون الاقتصاد الإسلامي أحد الأنظمة الاقتصادية العالمية أو العمل على أن يشارك الاقتصاد الإسلامي بفعالية في تصحيح الرأسمالية الغربية، أو أن نمتلك على الأقل مشروعاً اقتصادياً إسلاميا قابلاً للتطبيق - نرجو أن نحقق منها شيئاً على أرض الواقع من خلال الاستثمار الأمثل لهذه الأزمة؛ فعالمية الأزمة والتخبط في علاجها يفرض علينا –المسلمين- دوراً ايجابياً في التعاطي معها يتجاوز الأعمال التحليلية للأزمة، أو محاولة تأمين الأوضاع الاقتصادية المحلية -مع أهمية ذلك - إلى دور حيوي علاجي يقدم جملة من الحلول الإستراتيجية التي تقي البشرية من مثل هذه الأزمات مستقبلاً، استناداً إلى أحكام الشريعة الإسلامية؛ فنحن في النهاية أصحاب رسالة سماوية ومأمورون بإبلاغها إلى البشرية جمعاء، و لا يسوغ لنا أن نتوانى في ذلك، ولاسيما إذا شاهدنا البشرية تمر بأزمة عالمية قاسية، ولدينا حلولها وآليات لعلاجها، والتي سيساهم نشرها والترويج لها بشكل منطقي في إقناع العقول الغربية بالدين الإسلامي؛ كدين شامل لجميع مناحي الحياة، الأمر الذي سيضاعف أعداد الداخلين في الإسلام في الأوساط الغربية.
كما يجب ألاّ ننسى أن الإنسان حال إصابته بمصيبةٍ أو أزمةٍ ما تزداد قابليته لسماع وقبول أي صوت يمكن أن يعينه على تجاوز أزمته مهما كان حجم الاختلاف معه في وقت الرخاء، ولا أدل على ذلك من تلك الدعوات التي أطلقها مؤخراً بعض المفكرين وقادة الرأي في الغرب للاستفادة من أحكام الشريعة الإسلامية في النظم الاقتصادية المعاصرة؛ فقد دعت مؤخراً كبرى الصحف الاقتصادية في أوروبا إلى تطبيق الشريعة الإسلامية في المجال الاقتصادي كحل للتخلص من براثن النظام الرأسمالي الذي يقف وراء الكارثة الاقتصادية التي تخيم على العالم؛ ففي افتتاحية مجلة (تشالينجز)، كتب (بوفيس فانسون) رئيس تحريرها موضوعاً بعنوان (البابا أو القرآن)، تساءل الكاتب فيه عن أخلاقية الرأسمالية؟ وقال: "أظن أننا بحاجة أكثر في هذه الأزمة إلى قراءة القرآن بدلاً من الإنجيل لفهم ما يحدث بنا وبمصارفنا؛ لأنه لو حاول القائمون على مصارفنا احترام ما ورد في القرآن من تعاليم وأحكام وطبقوها ما حل بنا ما حل من كوارث وأزمات، وما وصل بنا الحال إلى هذا الوضع المزري؛ لأن النقود لا تلد النقود"، وفي جرأة أكثر طالب (رولان لاسكين) رئيس تحرير صحيفة (لوجورنال د فينانس) في إحدى افتتاحياتها بعنوان: (هل تأهلت وول ستريت لاعتناق مبادئ الشريعة الإسلامية) بضرورة تطبيق الشريعة الإسلامية في المجال المالي والاقتصادي لوضع حد لهذه الأزمة التي تهز أسواق العالم من جراء التلاعب بقواعد التعامل والإفراط في المضاربات الوهمية غير المشروعة.
ويأتي في السياق نفسه ما نشرته بعض الوكالات الدولية مؤخراً من ازدياد نسبة مبيعات كتب كارل ماركس منظر الشيوعية الأول؛ خصوصاً كتابه "رأس المال" الكتاب الأساسي للماركسية في أعقاب الأزمة التي ضربت الاقتصاد الرأسمالي، في محاولة شعبية لمعرفة كافات وجهات النظر في حقيقة المذهب الرأسمالي، وهذا يشير إلى حجم الهلع والذعر والخوف الذي أصاب الأمريكيين من جرّاء هذه الأزمة التي أثّرت على حياتهم على كافة الأصعدة، وأحدثت عند كثير منهم أشبه بحالة الردة والكفر بالنظام الرأسمالي الليبرالي المتوحش -على حد تعبير الاقتصادي الفرنسي الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد (موريس آلي) في كتابه الليبرالية المتوحشة- كما يشير ذلك إلى أن المشاعر السلبية المتزايدة تجاه الرأسمالية لم تقتصر على المستوى النخبوي بل تجاوزت ذلك إلى المستوى الشعبي ، والرغبة في التغيير والإصلاح للنظام الاقتصادي هي الأخرى في ازدياد.
لهذه الأسباب وغيرها أرى أنه من المهم أن تكون هناك جهود حثيثة من المنظمات الاسلامية وأصحاب الفكر وذوي الاختصاص الشرعي والاقتصادي عبر مؤسسات بحثية متخصصة لصياغة الاقتصاد الإسلامي كمنظومة متكاملة، تراعي الإمكان واحتياجات العصر ومتغيراته، وتتسم بالواقعية، وهذه رسالة أوجهها لمنظمة المؤتمر الاسلامي ورابطة العالم الاسلامي ومنظمة الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين في الغرب.. وإلى رواد الاقتصاد الإسلامي المعاصر من أصحاب الفضيلة المشايخ، و يأتي على رأسهم فضيلة الشيخ يوسف القرضاوي وفضيلة الشيخ عبدالله بن منيع وغيرهم، ولا أغفل في ذلك الدور الحيوي لرجالات الأعمال الداعمين للاقتصاد الإسلامي من أمثال الشيخ صالح كامل والشيخ سليمان الراحجي وغيرهم، كما أننا نرجو من بنوكنا الإسلامية كبنك دبي الإسلامي وبنك الراجحي وبك الإنماء وبنك البلاد وبنك الجزيرة وبيت التمويل الكويتي وغيرها، أن يكون لهم مساهمات مباركة في الرعاية المالية لهذه الجهود الضخمة، ويأتي جميع ذلك كخطوة أولية على الطريق، وأقترح أن يعقبها عقد مؤتمرات وندوات متنوعة في موضوعاتها ومستوياتها والفئات المستهدفة منها لتساهم في مخاطبة النخب في الداخل والخارج حول ميزات الاقتصاد الإسلامي والحلول التي يقدمها للمشكلات الاقتصادية المعاصرة التي تعاني منها البشرية، مع ضرورة عقد عدد من تلك الندوات والمؤتمرات في بعض الدول الغربية ليوجه الخطاب لأولئك القوم مباشرة، مع أهمية استضافة بعض رموز الفكر والاقتصاد الغربي لحضور تلك المؤتمرات.
والأمل في وسائل إعلامنا أن تقوم بدور فاعل في إبراز هذه الجهود، والترويج لمحاسن الاقتصاد الإسلامي، في حملات إعلامية تساهم في ترويج مشروعات الاقتصاد الإسلامي على المستويات الشعبية والنخبوية.
......